حسام الزير
داخل ساحة واسعة وسط مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا، اختار الأطفال اللعب بهداياهم التي تحصّلوا عليها في أيام العيد، كرات قدم، طبول صغيرة، سيارات سباق بلاستيكية تنطلق بقوّة عند سحبها إلى الخلف، وطائرات درون صغيرة الحجم بكاميرات تلتقط صوراً منخفضة الدقّة.
تركت ياسمين، يد والدها وأسرعت لتشارك رفاقها الجدد عيدهم، وما هي إلا دقائق حتى تعرّفت عليهم، تبادلوا الابتسامات ثم الألعاب.
تبدو علاقة الأطفال السوريين والأتراك أكثر انسجاماً حتى قبل أن يتعلّم السوريون منهم اللغة التركية. ثمة لغة تواصل خاصة بين الأطفال، تجعل الحياة أبسط.
ثم ينسحب الانسجام على الأهالي، ففي هذه المدينة "غازي عنتاب"، يختلط السوريون والأتراك سوية في مشهد بديع للغاية، كأنهم لم يكونوا أبداً من دول مختلفة.
"صلات القرابة، العادات والتقاليد القريبة، معرفة التاريخ المشترك"، هذه المدينة تبدو أكبر بكثير من كونها تركية فقط، هي جامعة لجذور المنطقة كلها، ابتداءً من "طيبة معدن أهلها وأصالتهم".
ثم تفترق مدينتي حلب وعنتاب بالحدود، وترتبطان ككيان واحد، تشرّب كل منهما شكل المدينة وحياتها، عدا عن لكنتها "العربكية".
الحلبيون ينطقون حرف الـ"تشي" وهو أحد الأحرف التركية، في كلمة مثل "جنق وهي تشجنق (صحن)"، "جنقات الوجه - تشنقات الوجه (الخدود)"، "جمجاية - تشمشاية (وهي ملعقة سكب الطعام)".
القائمة طويلة، والكلمات المتشابهة لفظاً كثيرة، عدا عن بعضها المتشابهة لفظاً ومعنى بين الحلبية والتركية، الشاي في سوريا هي الشاي في تركيا، في الحلبية الشاي هي "التشاي" وهي نفس الكلمة بالتركية "çay".
في سوريا عموماً يسمّى حزام الملابس بـ"الزنّار أو القشاط" في حلب يسمّى "كمر" وفي التركية بذات اللفط "kemer".
ووصل الأمر إلى أن بعض الكلمات يمكن أن يفهمها التركي من الحلبي، ولا يفهمها الكثير من السوريين من الحلبي. نعم إلى هذا الحد.
كلمة "قلاطق" بالتركية تعني (كنبة - أريكة)، هي ذاتها في الحلبية دوناً عن كل اللهجات السورية والعربية.
ثم منذ عدّة سنوات تطوّرت العلاقة اللغوية بين الأتراك والحلبيين "السوريين كلهم أيضاً" ليأخذ الأتراك كلمات جديدة عن الحلبية ككلمة "سيوي - تعني سر بشكل مستقيم، وهي تقال لأصحاب سيارات الأجرة مثلاً وباتوا هم يستخدمونها"، وكلمة "أبووو، للدلالة على شي كبير حدث كأن تقول (يااا رباه)، اليوم تستخدم حلبياً وتركياً".
هكذا يستطيع السوريون والأتراك التواصل مع بعضهم، بفعالية أكثر من مواطني أي دولة أجنبية أخرى، فمشهد رجل سوري مسن يفتح حديثاً طويلاً مع آخر تركي عند بداية الحي رغم عدم إتقان الاثنين للغة الآخر تماماً، هو مشهد مألوف.
الصورة الأكثر إثارة للجدل وتأجيجاً لمشاعر الناس السلبية اليوم هي الأكثر رواجاً وانتشاراً، نحن نشاهد آلاف الناس يغرّدون على تويتر بعنصرية لها أهداف كثيرة منها ربما "جذب المتابعين مثلاً" عدا عن عشرات الأخبار التي تتحدث عن فصل جزئَي مجتمع تشكّل خلال 10 سنوات، جامعاً تجارب وخبرات وقصص مشتركة.
على عكس ذلك، لا يتابع معظم الأتراك وسائل التواصل الاجتماعي المسمومة، المتخمة بخطاب كراهية الآخر والتحريض على نبذه، فقط هم مهتمون بالحياة الواقعية أكثر.
السوريون يعملون كغيرهم، وينتجون، ويستهلكون في السوق التركية، يوفّرون فرص عمل لآلاف الناس، عدا عن دفعهم لإيجارات منازلهم، وهذا ليس فضلاً منهم، لكنهم يحرّكون الاقتصاد العمراني بصورة واضحة في سبيل توفير شقق سكنية تؤجّر لهم.
الحديث يطول عن تأثير السوريين الإيجابي على الاقتصاد التركي، والأرقام منتشرة على ذات وسائل التواصل التي تُستخدم لنقل صورة الكسول المهمل المخالف للقوانين عن السوري.
لكن الغير منتشر هو صورة العلاقة السورية التركية التي تشكّلت عبر السنين الماضية، إذ ليس من مصلحة العالم الذي يصدّر صورة الكره أن يقول بأن ثمة شعبين تآلفوا فأصبحوا شعباً واحداً وبالتالي لم يعد هنالك حاجة للحدود، الأفضل له أن يُبقي كل شيء على حاله، بل ويزيد الحساسية حتى يستفاد من الصراعات، وإلا لماذا لا تعزز السوشيال ميديا خطاب المحبة وتوقف خطاب العنف والكرهية فوراً؟!.
ستغلّف الجواب بدعوى حرّية التعبير في حين أنها تفتّش عن مصلحتها فقط.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق