حسام الزير
في هذه الغرفة الصغيرة المعتمة، الخالية من الألوان، أتصارع كل يوم بعد منتصف ليل الناس، مع أعتى وحوشي شراسة، حتى تكيّفت مع عدم قدرتي مع النوم.
أنا القلِق، قلقاً مزمناً، يقلّب على السرير جسدي وعقلي، كقطعة لحم في مقلاة، علّتي الوحيدة هي ذاكرة تجمّدت عند آخر صورة جميلة، الصور بعدها متشابهة، مرعبة، ولا يحتملها عقل إنسان صُنع ليمرر جرعة ألم وأمل في كل مناسبة سانحة، لا أن تكون جراعتنا كلها ألم.
قبل سنوات، وصلت إلى هذا المنفى، تساقطت عائلتي كأوراق الخريف، واحداً تلو الآخر، رأيتهم تماماً يتلاشون من حياتي، قيل لي أنهم قُتلوا في الحرب.
الآن أنا الضحيّة الأخيرة، الرصاص هذه المرّة، اخترق رأسي وتركني حيّاً أصارع حياةً بائسة عاجزة عن إنقاذي بخاصية التلاشي كما فعلت مع من قبلي.
قبل خمسةِ أعوام وصلت إلى تركيا، قيل لي أننا قطعنا الحدود، أنا فقط لم أشعر بذلك، مازالت في منزلي الحلبي الدافئ، مع والدي ووالدتي وأخوتي، نحضر طعام يوم الجمعة.
عالقون نحن في هذه الذكرى، إذا ما خرجت أنا من همّي وحزني نحو واقعي، سأكتشف أننا نشكّل سوية ثلاثة أرباع السوريين غير القادرين على تقبّل الحقيقة.
أبو محمد، هو الجار حيث أقطن اليوم، صاحب دكّان صغير أشتري من عنده خبزي، وأتشارك معه أحلامنا السورية، تمضي ساعتين أو ثلاثة ساعات، نسبح في سماء سوريا 2010 أو ما قبل، يوم كنّا وسط أقاربانا، أهلنا، أحبتنا، يوم كنّا نتشارك مناسباتنا، أعيادنا مع كل الوجوه والقلوب التي نعرفها، ونفتش عن لحظات فرحنا لنفرح.
وفي لحظة العودة المزعجة إلى تاريخ يومنا هذا، بعد ساعات أبو محمد، نبدو كما لو كنّا أطفالاً انتهت رحلتهم الصيفية. نتمنى لو أن الرحلة لم تنتهي، أو أن تصبح حياتنا سلسلة من الرحلات الصيفية السورية تلك العائلية الجميلة والبسيطة.
يقودني إدمان سوريا التي أحب إلى صفحات الفيسبوك، بعض من ارتبطت ذاكرتي بهم مازالوا هنا، أعيد تجربة العودة إلى سوريا لساعة أو ساعتين، نقتح صفحات ذكريات رفاقنا، نتجوّل سوية لساعات في أزقّة وحارات حلب، نبعثر ألعابنا، نرسم أحلامنا، ونغطي أخطائنا وعثراتنا، ثم نضحك، وعندها يكون الوقت قد حان للحظة العودة.
أمضيت نصف لجوئي وغربتي، حائماً كغيمة ربيعية فوق سوريا التي أتذكر وأتوق وأحلم، ونصف لجوئي الثاني، أسفل الأرض، مسجون، قلِق، مرتبك، خائف، ليس لي مكان ولا وطن، ولن تكفيني جوازات سفر العالم كلّها لتغطي مكان الأمان داخلي.
أنا لا أمثّل فقط ملايين السوريين المرضى بالذكريات، أنا في كل يوم، أبحث كما الجميع عن مكان أجمع فيه بقاياي المتناثرة، حتى أعود كياناً واحداً بقلبٍ ونصف عقل أو أن تُعِيدوا ما تبقي منّي إلى حيث توقّفت ذاكرتي.



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق